وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الجواب الإجمالي:
لا بدّ من التفريق والتمييز بين الجانب العقائدي المرتبط بمقامات أهل بيت العصمة وفق عقيدتنا بأئمتنا عليهم السلام، وبين الواجب التكليفي على المؤمنين في مثل هذه الظروف الذي يحتم عليهم تكاليفاً خاصة ولا يجوز الخلط بين الامرين.
الجواب التفصيلي:
يمكن تقسيم السؤال إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: زيارة الإمام الحسين عليه السلام في زمن العباسيين
إنّ أتباع أهل البيت (عليهم السلام) عانوا كثيراً على مرّ العصور، وخاصة في زمن المتوكل العباسي. وكانت زيارة سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) وإقبال الشيعة عليها، مع ما تحمله في طيّاتها من رفضٍ للظلم واستعدادٍ للتضحية بالغالي والنفيس لأجل إعلاء كلمة الحق ورفع الظلم والفساد، مورد خطرٍ على الطغاة وعلى عروشهم.
ولذا، ورد في التاريخ أنّ هؤلاء الطغاة عمدوا إلى أمرين في مواجهة هذه الظاهرة:
الأمر الأول: إصدار الأمر بهدم المقام، حيث ورد أنّ المتوكل أمر بهدمه عدّة مرات.
جاء في تاريخ الطبري: «(سنة ٢٣٦) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه. فذُكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق "وهو سجن مظلم تحت الأرض"، فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه، وحُرث ذلك الموضع، وزُرع ما حواليه» (1).
قال الشاعر:
بالله إن كانت أميةُ قد أتَتْ *** قتلَ ابن بنت نبيِّهَا مظلومَاً
فلقد أتاهُ بنو أبيه بمثله *** هذا لعمري قبرُه مهدوماً
أسفوا على أنْ لا يكونوا شاركوا *** في قتلهِ فَتَتَّبعُوهُ رميماً
الأمر الثاني: ممارسة سياسة الاضطهاد والترهيب تجاه الشيعة ومنعهم بكل الأساليب من زيارة سيد الشهداء عليه السلام، ومن بين هذه الأساليب:
أولا- إرسال من يزور الحسين عليه السلام إلى المطبق وهو سجن مظلم تحت الأرض (2).
ثانيا- وضع مراكز للشرطة على طريق الزوار، لا يجدون أحداً زاره إلا قتلوه أو أنهكوه عقوبة (3)!
وهنا يأتي سؤالكم، أليس في الإقبال على زيارة سيد الشهداء في تلك الظروف العصيبة إلقاءً للنفس في التهلكة؟
الجواب:
إذا راجعنا التاريخ نلاحظ بوضوح احتفاف الشعائر الحسينية منذ أول انطلاقها بالتحديات والتهديدات، سواء الساخنة أو الناعمة في كل أنماطها من الزيارة، والعزاء، والمآتم، والرثاء.
فقد وردت روايات مستفيضة في الحثّ على إتيان الزيارة والشعائر الحسينية في ظروف الخوف والمخاطرة بالنفس منذ عملية دفن الجسد الشريف إلى يومنا هذا مرورا بعهد الأئمة عليهم السلام حيث كثر ذكر استنفار السلطة الأموية والعباسية للبطش بزوار الحسين عليهم السلام في روايات الحديث والتاريخ، وهدم القبر الشريف العديد من المرات كما مرّ.
منها: ما روي عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: اني انزل الارجان (بلد) وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك، فإذا خرجت فقلبي وجلٌ مشفق حتى أرجع خوفا من السلطان والسعاة وأصحاب المسالح (الشرطة)، فقال: يا بن بكير أما تحب أن يراك الله فينا خائف، أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظله الله في ظل عرشه، وكان محدثه الحسين (عليه السلام) تحت العرش، وآمنه الله من افزاع يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزع، فان فزع وقرته الملائكة وسكنت قلبه بالبشارة.
وعليه، تصبح الزيارة في مثل هذه الظروف شبيهة بالجهاد، فتجوز حتى مع احتمال الضرر المالي أو البدني على خلاف بين الفقهاء في صورة الخوف من الهلاك.
راجع: حکم المسير الي زيارة الاربعين اذا کان هناك خطر (السيد محمد صادق الروحاني).
القسم الثاني: زيارة الإمام الحسين عليه السلام في زمن الكورونا
لا شك ولا ريب في أنَّ زيارة الإمام الحسين عليه السلام في حدِّ ذاتها من أفضل المستحبات التي يمكن للإنسان المؤمن أن يتقرب بها إلى الله تعالى.
ولكن عندما يتزاحم أمرها مع خطر عام يهدد عموم الناس كما هو حاصل في أيامنا نتيجة هذه الجائحة الخطرة، فإن الواجب الذي يقدم على ما عداه هو حفظ أنفس المؤمنين من أن تكون عرضة لهذه المخاطر ولو استلزم الأمر الإقفال المؤقت للأضرحة المقدسة، أو فتحها مع رعاية الإجراءات الصحية بما يؤدي الى درء الخطر وضمان عدم انتقال العدوى بقدر معتد به عقلائيا.
من نافل القول أن نقول: إنّ هناك ابتلاءً تعيشهُ البشرية منذ مدّة من خلال انتشار فيروس كورونا الذي أصاب الملايين في العالم ولا يزال، وبالتالي فإنّ هذا الواقع هو حقيقة لا ينكرها أو ينكر أثرها إلا جاهلٌ غير معذور في جهله، وهو ما يوجب على المؤمنين التصرّف في هذه الحالة وفق التكاليف الشرعية بعيدا عن الرغبات والأهواء والعواطف.
ولذا نجد أن المرجعية الدينية قد أوصت المؤمنين بعدّة وصايا في هذا الصدد منها:
أ- الالتجاء إلى الله عزّ وجل والتضرّع إليه لدفع هذا البلاء، والإكثار من الأعمال الصالحة كالتصدّق على الفقراء وإعانة الضعفاء وقراءة القرآن المجيد والأدعية المأثورة عن النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام).
ب- الحذر اللائق بحجم هذا الوباء من غير هلع واضطراب والأخذ بأتمّ أسباب الوقاية والعلاج منه وفق ما يقرّره أهل الاختصاص بعيداً عن الأساليب غير العلميّة.
ج- العمل على توعية الآخرين بمخاطر الاستهانة بهذا الفيروس وحثّهم على الالتزام بالتوجيهات الصادرة من الجهات المعنيّة وعدم التخلّف عنها.
د- إذا اقتضى الأمر الاغلاق المؤقت للمراقد المقدّسة لمنع الضرر المؤكد الذي يحصل من الاختلاط بين الناس فيكون لازما.
ه- يجتنب الدخول لمكانٍ يوجد احتمالٌ عقلائيٌّ بالإصابة فيه، إلا إذا استُبعِدَ ذلك الاحتمال أو لم يُعتَدّ به نتيجة رعاية المعايير الصحية فيه.
القسم الثالث: الفرق بين زيارة الإمام الحسين في زمن العباسيين وبين زيارته في زمن الكورونا
ما الفرق بين زيارة الإمام الحسين في زمن العباسيين وغيرهم من الطغاة حيث كان الحث على الزيارة رغم احتمال الضرر، وبين زيارة الإمام الحسين عليه السلام في زمن الكورونا التي توقفت في الآونة الأولى بسبب الإقفال المؤقت ثم شرطت برعاية المعايير الصحية؟
في الإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من التفريق والتمييز بين الجانب العقائدي المرتبط بمقامات أهل بيت العصمة وفق عقيدتنا بأئمتنا عليهم السلام، وبين الواجب التكليفي على المؤمنين في مثل هذه الظروف الذي يحتم عليهم تكاليفاً خاصة ولا يجوز الخلط بين الامرين.
توضيح ذلك:
إنّ أئمتنا عليهم السلام حثّوا على الزيارة حتى مع الخوف عندما يمنعها الأعداء، لتثبيت ما ترمز إليه الزيارة من عقائد حقة، وما مَنعُ الأعداء لها إلا لتلك الخصوصية، أما فيما نحن فيه الآن فلا شيء من ذلك يوجب تعريض الانفس للخطر؛ لأنّه يكون بلا هدف، بل إنَّ مثل هذه الدعوات إلى عدم الاعتناء بالفيروس والذهاب إلى الزيارة بدون رعاية الاجراءات توجب زلزلة عقائد البعض، وتقدم خدمة للأعداء المشككين الذين يطعنون بعقائدنا، وبالتالي فمثل هذه الدعوات هي من المحرمات.
لا منعَ اليومَ من إقامة الشعائر بما هيَ، بل دعوة لمراعاة رفع الضرر المتيقن، ومع عدم المراعاة تتحقق الحرمة ويسقط بذلك ثواب الزيارة، وثواب العمل.
وقياس الأمر على ما حث عليه الائمة هو قياس مع الفارق، ونهيُ الامام الصادق (ع) لأبي حنيفة عن القياس واضح لكل ذي لب إذ أن أول من قاس هو ابليس.
نسأل الله تعالى أن يرفع هذه الغمة عن هذه الأمة، ويصلح ما فسد من أمور المسلمين، إنه على كل شيء قدير.
دمتم موفقين لكل خير
الهوامش:
(1) تاريخ الطبري (٩/١٨٥).
(2) نفس المصدر.
(3) مقاتل الطالبيين، ص ٣٩٥.
المصادر:
السيد الخامنئي: الموقع الرسمي، س2، س3.
السيد السيستاني: مكتب سماحة السيد في لبنان: 1، 2.
السيد محمد صادق الروحاني: 1، 2، 3، 4.
مركز الرصد العقائدي.