وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
المعرفة والإيمان بالشيء على قسمين:
الأول: المعرفة بالعقل ومن خلال الدليل والبرهان العقليين حيث لا دخل للحواس في إدراك ومعرفة المعلوم.
الثاني: المعرفة من خلال الحواس ـ المشاهدة والتذوق واللمس وما شاكل ـ.
وفي المقام لا يخفى أنّ إبراهيم عليه السلام كان قد علم وأدرك وآمن بأنَّ الله تعالى قادرٌ على إحياء الموتى، بل كان يجزم بانّ الهدف من خلقة بني آدم هو الثواب والعقاب والتكامل والوصول إلى البعث والنشر والجنّة والنّار، حيث أدرك وآمن بوجود الله الواحد الأحد من خلال العقل والأدلة.
إلّا أنّه كلّما تفكّر في كيفيّة حصول البعث وإحياء الموتى كان يراوده حديث نفسٍ عن كيفيّة حصول ذلك ـ فهو ليس بالأمر الذي يمكن تعقّله ـ خصوصاً بعد مضي فترة طويلة على موت الجسد وفنائه وتناثره واختلاطه مع أجسام أخرى من نبات وأحجار وتراب.
طبعاً لم يصل به حديث النفس هذا إلى مرحلة عدم التصديق بما أخبره به الله وبما قد آمن به عقلاً، إلّا أنّه كان يرغب في إدراك ومعرفة ذلك من خلال الحواس والقلب لا مجرّد العقل كي لا يسمح لنفسه أن تحدّثه بذلك مجدّداً. فما كان منه إلّا أن خاطب الله تعالى وطلب منه أن يريه كيف يحيي الموتى.
والذي يشهد على ذلك:
أوّلاً :أنّ الله تعالى لم يستنكر عليه ذلك ولم يوبّخه في سؤاله هذا، بل سأله: (أولم تؤمن) فأجابه إبراهيم عليه السلام بالإيجاب وأنّه قطعاً مؤمن وأنه لا يشكّ في ذلك، إلّا أنّه يرغب في إراحة قلبه ورؤية ذلك من خلال المشاهدة كي يطلع على حقيقة ذلك الإحياء الذي جعله في حيرة.
فعلى سبيل المثال: لا شكّ أنّ الله تعالى هو أحسن الخالقين، حيث خلق البشر والكون على أحسن وجه. إلّا أنّ قولنا: (الله أحسن الخالقين) قد يجعلنا نتساءل: لماذا هو أحسن الخالقين ومن أي جهة هو كذلك وما هو الذي ميّزه في الخلق؟! ولا يكون هدفنا التشكيك بكون الله تعالى أحسن الخالقين أو لا، بل نحن على يقين من ذلك، إلّا أن حديث النفس قد يعترينا. ومن هنا يأتي الجواب من قبل الله تعالى: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ] فمن يطّلع على هذه التفاصيل وما بعدها من الآيات التي تتحدث عن خلق السموات والأرض لا يبقى في نفسه أي تساؤل.
ثانياً: إنّ الله تعالى لم يحي له ميّتاً عاديّاً قد مات ولم يتناثر جسمه وإلّا لما حصل الغرض من المعرفة القلبية التي تكون من خلال الحواس، حيث كان سؤاله عليه السلام عن تفاصيل الإحياء وكيفيّة جمع الأجزاء بعد تلاشيها واختلاطها بغيرها. ومن هنا أمره الله تعالى أن يحضر أربعة من الطير، حيث إنّ الطير مخلوق صغير يمكن حفظ معالمه بسهولة، ومن ثمّ أمره بتقطيعها وخلطها وإبعادها عن بعضها، كما يحصل عادة بعد تلاشي الأجسام، ومن ثمّت أحياها الله تعالى وأرجع كل جزء إلى مكانه الأساسي من جسم الطير الذي كان فيه.
وهذا المقدار لا يتنافى مع عصمة الأنبياء وإيمانهم ومعرفتهم بحقيقة الله وقدرته، بل هو أمر عادي نشاهده في حياتنا اليومية ولا يستنكره أحد على أحد. فكما أنّنا جميعاً ندرك بالعقل أنّ النار محرقة إلّا أنّنا نتساءل عن معنى الإحراق والحرارة ومدى قوتها على الأذية، فلا يمكن إدراكها إلّا بالحواس، فكذلك رؤية الإحياء. ولا شكّ أن إدراك الشيء بالحواس يقطع الطريق بالكليّة على حديث النفس وله تأثيره المباشر على النفس والروح. فموسى على نبينا وآله وعليه السلام كان يعلم أنّ قومه اتخذوا عبادة العجل، حيث أخبره من لا يشك في إخباره وهو الله تعالى، إلّا انّه رغم ذلك لم يغضب غضباً شديداً كما غضب أثناء عودته ورؤية قومه بالعين كيف يعبدون العجل.
دمتم موفقين لكل خير