عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
تشبه هذه الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ الذي ورد ضمن آيات نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله): ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (٣٣) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (٣٤)﴾ [الأحزاب]، مع اتّفاق المسلمين على أنّ آية التطهير نازلة في أصحاب الكساء (عليهم السلام).
فأمامنا حقيقة مُجمع عليها وهي أنّ الآية نزلت في شأن محدّد خارج عن السياق (للوهلة الأولى).
فتطرح عدّة فرضيّات تفسيرية:
- أنّ الآية وُضعت في هذا السياق بأمرٍ من النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، لسبب ما.
- أو أنّ الآية نزلت في خلال نزول آيات نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله). فوضعت هنا، وإن كانت غير مرتبطة بالسياق، فقد كانت آيات النساء تنزل ونزلت في ذلك الحين هذه الآية فوضعت في هذا الموضع لأنّه محلّها بحسب ترتيب الآيات، كما هو الحال في قوله تعالى: (لا تحرّك به لسانك لتعجل به، إنّ علينا جمعه وقرآنه...) في سورة القيامة.
- أو أنّ الآية مرتبطة ارتباطًا ما بموضوع السياق، وتنطبق على غيره أيضًا.
وهذا ما يحتاج إلى شيء من التفصيل؛ فالآية ـ آية التطهير ـ مرتبطة بنساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من جهة أنّ التشريعات التي سبقتها الغرض منها: تطهيرهنّ، وهذا لا شبهة فيه؛ فإنّ الله تعالى يريد الطهارة بتشريعاته؛ (ولكن يريد ليُطهِّرَكُم). وترتبط ـ كما روى الفريقان ـ بأهل البيت أصحاب الكساء (عليهم السلام). فالآية في محلّها من السياق؛ إذ التشريعات التي أًُلزِم بها نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إنّما هي لطهارتهنّ، وهي في الوقت عينه مرتبطة بأصحاب الكساء (عليهم السلام)؛ قال في أسباب النزول: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حيان قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عاصم قال: أخبرنا أَبُو الرَّبِيعِ الزهراني قال: أخبرنا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الثوري قال: أخبرنا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الْجَحَّافِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} قَالَ: نَزَلَتْ فِي خَمْسَةٍ: فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ والحسين عليهم السلام» [أسباب النزول (ت الحميدان)، ص354)].
هذا الكلام بعينه يمكن أن نطرحه ـ بالفرضيّات الثلاث ـ في آية إكمال الدين، ونفصّل الكلام على الفرضيّة الثالثة؛ فالآية مرتبطة بتحريم اللحوم؛ إذ كان تحريم بعض اللحوم وتحليلها يحتلّ حيّزًا كبيرًا من دين الجاهليّة، لاحظ قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) ﴾ [الأنعام]، وقوله عزّ شأنه: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) ﴾ [الأنعام]، قوله جلّ جلاله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)﴾ [الأنعام]، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (١٣٦) ﴾، [الأنعام]، وقوله عزّ اسمُه: ﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) ﴾ [الأنعام]، وقوله جلّ شأنه: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)﴾ [الأنعام]... وغيرها.
هذه الأحكام التابعة للأهواء إذا بُدّلت فقد قضي على دين الجاهليّة، وماذا في دين الجاهليّة؟! فقد ناسب تحريم تلك الأصناف أن يُذكر كمال الدين وتمام النعمة، وأنّ الكافرين قد يئسوا من دين الإسلام، أي: من أن يظهروا عليه... قال صاحب التحرير والتنوير ـ في مناسبة آية الإكمال لهذا السياق ـ:
وَالْمُنَاسَبَةُ فِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ: هِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ أُمُورًا كَانَ فِعْلُهَا مِنْ جُمْلَةِ دِينِ الشِّرْكِ، وَهِيَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَتَحْرِيمُ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَكَانَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ بِمُفَارَقَةِ مُعْتَادِهِمْ، وَالتَّقْلِيلِ مِنْ أَقْوَاتِهِمْ، أَعْقَبَ هَذِهِ الشِّدَّةَ بِإِينَاسِهِمْ بِتَذْكِيرِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ إِكْمَالٌ لِدِينِهِمْ، وَإِخْرَاجٌ لَهُمْ مِنْ أَحْوَالِ ضَلَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّهُمْ كَمَا أُيِّدُوا بِدِينٍ عَظِيمٍ سَمْحٍ فِيهِ صَلَاحُهُمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْبَلُوا مَا فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى إِصْلَاحِهِمْ: فَالْبَعْضُ مَصْلَحَتُهُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَنَافِعِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْبَعْضُ مَصْلَحَتُهُ رَاجِعَةٌ إِلَى التَّرَفُّعِ عَنْ حَضِيضِ الْكُفْرِ: وَهُوَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. وَالِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ أَذْكَرَهُمْ بِفَوْزِهِمْ عَلَى مَنْ يُنَاوِيهِمْ، وَبِمَحَاسِنِ دِينِهِمْ وَإِكْمَالِهِ، فَإِنَّ مِنْ إِكْمَالِ الْإِصْلَاحِ إِجْرَاءَ الشِّدَّةِ عِنْدَ الِاقْتِضَاءِ. وَذُكِّرُوا بِالنِّعْمَةِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الشِّدَّةِ بِاللِّينِ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ، زَمَانًا، إِذَا سَمِعُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ رَجَوْا أَنْ تَثْقُلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَرْتَدُّوا عَنِ الدِّينِ، وَيَرْجِعُوا إِلَى الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ الْمُنَافِقُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: 7] . فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: بِشَارَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَنِكَايَةً بِالْمُشْرِكِينَ» [التحرير والتنوير، ج6، ص99-100].
ثمّ ذكر بعد ذلك ما يشير إلى أنّ آية إكمال الدين نزلت بصورة مستقلّة، ولكنّه لم يذكر أنّها نزلت في واقعة الغدير، ولذلك أسبابه المعروفة، ولا ضير. فليُراجع.
ونعود فنقول: كذلك الآية مرتبطة ـ كما روى الفريقان ـ بما جرى في واقعة الغدير المشهورة، حيث كانت ولاية عليّ (عليه السلام) هي كمال الدين وتمام النعمة.
دمتم موفقين لكل خير.