وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
بداية يجب دائما أن ننظر إلى مجموع الروايات التي تتكلم عن موضوع واحد لفهم كيفية توجيهها، ولنعرف إذا كانت تتحدّث عن خصوص مورد معيّن أو كانت حكما عاما على الموضوع بلا نظر إلى مورد محدّد، وعليه في المقام نقول:
إنّ الله تعالى قد أمرنا أن ندعوا إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نتحلّى بمستوى لائق من الأخلاق والمثل العليا، وعندنا العديد من الروايات تتحدّث عن أنّ الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) كانوا يبتسمون في وجوه من يشتمهم أو يشتم أباهم أو أمهم، بل في بعض الأحيان تأخذهم الشفقة عليهم.
وأي معصية أكبر من التعرّض لأهل بيت العصمة بالإساءة؟!
لدينا كمٌّ هائل من الروايات التي تحكي عن أنّ المؤمن بشره في وجهه وأنّه هشّ بشّ وأنّ أمره ومعاشرته سهلة وطيّبة، لذا كلّ هذا لا ينبغي أن يتعارض مع مورد الكلام، ورفع التعارض الظاهري هو عند معرفة أنّ الرواية لا تتكلم عن الحالة التي يكون العبوس في الوجه مبعّد ومنفّر من طاعة الله تعالى، فالمؤمن لا ينبغي أن ينفّر الناس من طاعة الله، ولكن عليه أيضًا أن لا يرخّصهم في معصية الناس، وهذا مفاد ضرورة الحكمة لكي يعلم ما هو الأسلوب المفضي إلى النتيجة والغاية.
ولعّل التعبير بأهل المعاصي في الرواية مشعر بأنّ هذه فئة من الناس تصّر على المعصية، بمعنى أنّه لم تصدر منها المعصية بضع مرات فقط لغلبة هوى أو شهوة، بل إنّ لديهم إصرارا على ارتكاب المعصية لذلك هم "أهل المعاصي" فلا ينبغي أن نخلط بين هذه الفئة وغيرها في المقام.
إنّ المؤمن عليه أن ينهى عن المنكر بلا شك، وهؤلاء الناس لم يعد ينفع معهم ويؤثر فيهم التودد إليهم والإحسان إليهم، بل طُبع على قلوبهم، فهم ليسوا مجرّد عصاة عاديين ينتهون إذا نهوا.
وإلا فإنه لا شك أنّنا لو كنّا أمام فئة من العصاة الذين يمكن لك أن تجذبهم إلى الدين بإبتسامة وأن تنهاهم عن المنكر بكلمة طيبة كما لو قلت لهم إن هذا الفعل يؤذيكم ويضّر بكم فدعوه أفضل، وكنت تعلم بأنّ هذا يؤثر فيهم فمما لا شك فيه أنه لا ينبغي عليك العبوس في وجههم، وهذا ما يستفاد من قوله تعالى{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}.
ولعّل الرواية فيها إشارة إلى وظيفة الإنسان المؤمن بأنّ عليه أن لا يداهن في دينه، ولا ينساب وراء أهوائه بأن يتودّد إلى أهل المعاصي ويتحبب إليهم ولا يرى في ذلك خدشة في دينه وهويته الإيمانية، فليس الدين إلا الحب، وإذا كان الإنسان يحب الله تعالى فمما لا شك فيه أنه سيبغض أهل المعاصي، ومقتضى هذا البغض هو إظهار الرفض لهم، ولكن هذا ما ينبغي أن يكون منسجما مع محبته لهداية الناس وإصلاحهم وجذبهم إلى الدين، فلا ينبغي أن نغفل عن هذا المشهد، فهذا أيضًا من مفردات الحب، فإنّ من أحب الله تعالى أحبّ عباده، وبالتالي أحبّ الخير لهم، وحب الخير يتجلّى في حبه لهدايتهم ومقتضى هذا الحب أن يسلك المقدمات الموصلة إلى الغاية، وعليه فلو كان التودد إليهم موصل إلى هدايتهم فيتودّد إليهم عبر استدراجهم بلطف إلى الدين، ولكن عليه أن يحذر من استدراج الشيطان، ومن أن تسّول نفسه بذريعة التودد إلى الناس أن يترك وظيفة النهي عن المنكر من رأس فإنّا للأسف نشهد عند العديد من الناس الذين يظهر عليهم الإيمان أنهم يتعايشون مع أهل المعاصي بذريعة الانفتاح بلا مرعاة لحدود الدين ومراقبة لمعدّل التقوى والورع، فيرتكبون ما يتنافى مع العفة والحياء والتقوى بذريعة الانفتاح وتقبّل الآخر.
فعلينا أن نخشى الله لا أن نخشى الناس، وعلينا أن نخاف أن يشملنا العذاب إن رضينا بالمعاصي التي يرتكبها الناس لمجرّد أنّنا نعيش بينهم، فالمؤمن لا يرّخص الناس في معصية الله أبدا ولا ينبغي أن يظهر منه ذلك، كما أنّه لا ينفرّهم من طاعة الله.
وبالتالي بهذا التوجيه قد نكون أمام فئة من الناس الذين لا يتأثرون بالدين هم واقعا من أهل المعاصي فهؤلاء مقتضى محبتنا لطاعة الله وللعادلة في الأرض أن لا نظهر لهم رضانا عن أفعالهم بل مقتضى الحب لله أن نظهر لهم موقفنا السلبي منهم عبر العبوس في وجوههم فانظر إلى ما كان النبي عِيسَى (على نبينا وآله وعليه السلام) يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ تَحَبَّبُوا إِلَى اللَّهِ بِبُغْضِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّبَاعُدِ مِنْهُمْ وَ الْتَمِسُوا رِضَاهُ بِسَخَطِهِم(1).
فواضح أنّنا أما فئة لا عاصية مغضوب عليها علينا أن نبرز موقفنا الرافض لها، وانظر قول الإمام الصادق عليه السلام: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ بَعَثَ مَلَكَيْنِ إِلَى أَهْلِ مَدِينَةٍ لِيَقْلِبَاهَا عَلَى أَهْلِهَا فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَجَدَا رَجُلًا يَدْعُو اللَّهَ وَ يَتَضَرَّعُ فَقَالَ أَحَدُ الْمَلَكَيْنِ لِصَاحِبِهِ أَ مَا تَرَى هَذَا الدَّاعِيَ فَقَالَ قَدْ رَأَيْتُهُ وَ لَكِنْ أَمْضِي لِمَا أَمَرَ بِهِ رَبِّي فَقَالَ لَا وَ لَكِنْ لَا أُحْدِثُ شَيْئاً حَتَّى أُرَاجِعَ رَبِّي فَعَادَ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى فَقَالَ يَا رَبِّ إِنِّي انْتَهَيْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَجَدْتُ عَبْدَكَ فُلَاناً يَدْعُوكَ وَ يَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ فَقَالَ امْضِ بِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ فَإِنَّ ذَا رَجُلٌ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ غَيْظاً لِي قَط (2).
أي إنه لم يبرز أي مشاعر رافضة لحالة الكفر والمعصية.
وختاما، فلا علاقة لهذه الفئة بمن نحتمل التأثير عليهم بالتودد إليهم ونحتمل جذبهم إلى الدين بأسلوب آخر لأنّ هذه الدعوة متوجهة إلينا بالأصل عبر قوله تعالى {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} فإنّ الدعوة إلى الدين ليست للإنسان المتدين المؤمن، بل مما لا شك فيه أن من الأفراد الذين يراد أن نتوجه إليهم في الدعوة إلى الدين هم الناس الذين يرتكبون المعاصي ولا يلتزمون بشرع الله فالدعوة إليهم كي يهتدوا بهدى الله، والله تعالى قد خاطب نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} إذا اكتملت معالم المشهد فإن الموقف ينبغي أن يكون قد بات واضحًا عندكم إن شاء الله تعالى.
دمتم موفقين لكل خير
الهوامش:
(1) مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل، ج12، ص: 196.
(2) الكافي (ط - الإسلامية)، ج5، ص: 58.